وثائق سريّة للبنتاغون تكشف عن إخفاقات متكررة في شنّ غارات جوية مُميتة

وثائق سريّة للبنتاغون تكشف عن إخفاقات متكررة في شنّ غارات جوية مُميتة

باستثناء الحالات النادرة التي يعقبها تداول الأخبار والانتقادات، فإن تقارير البنتاغون الموجزة عن الحالات القليلة التي اعتبرها ذات مصداقية هي الاعتراف العلني الوحيد بحصيلة الضحايا المدنيين في الحرب الجوية.

ويشير تحقيق ”نيويورك تايمز“ في العراق وسوريا وأفغانستان إلى الحقيقة بصورتها الأعم.

فإلى جانب اكتشاف ”نيويورك تايمز“ أن العديد من الادعاءات بسقوط ضحايا مدنيين قد رُفضت على نحو جانبه الصواب، وجدت الصحيفة أيضاً أنه حتى في حالة الاعتراف بمقتل المدنيين، تكون الأرقام المعترف بها عادةً أقل بكثير من الواقع.

استند حوالي 37 بالمائة من الادعاءات التي اعتُبرت ذات مصداقية إلى تحقيقات ميدانية سابقة كان قد أجراها صحافيون أو منظمات غير حكومية. وفي هذه الحالات، كان عدد القتلى المعترف به يضاهي تقريباً العدد المبلغ عنه. لكن في الحالات الأخرى، كشف تحقيق ”نيويورك تايمز“ أن عدد الضحايا المدنيين يبلغ تقريباً ضعف العدد الذي اعترف به الجيش. (دون أن يشمل هذا العدد زوجات مقاتلي داعش وأبنائهم نظراً لصعوبة التحقق منهم).

تشير الوثائق إلى مقتل أو إصابة الأطفال في 27 بالمائة من الحالات؛ لكن التحقيق الميداني الذي أجرته التايمز كشف عن ارتفاع هذه النسبة إلى 62 بالمائة. كما كشفت الصحيفة عن وجود ناجين أصيبوا بإعاقات بالغة في 40 بالمائة من المواقع التي زارتها، وهي نسبة لم يرصدها الجيش في تحقيقاته.

وبعيداً عن عدد الضحايا، فإن آلية إعداد وتنفيذ هذه التقييمات لم تكن تشجّع على استخلاص الدروس المباشرة أو فهم ما يحدث على مستوى أكثر تعمقاً.

تنوعت السجلات التي حصلت عليها ”نيويورك تايمز“ – والتي حُجبت من بعضها أجزاء كثيرة – بين تقارير موجزة عن الانطباعات الأولية أو تقييمات المصداقية التي تتسم بطابع رسمي أكبر. وبشكل عام، تتضمن التقارير روايات مستمدة من ”حزمة الهدف“ – ويُقصد بها المعلومات الاستخباراتية عن الهدف، وتقديرات الضحايا المدنيين، والإجراءات المتخذة للتخفيف من الضرر الواقع على المدنيين، وتسجيلات الفيديو، وسجلات المحادثة التي توثق خطوات العملية.

لم تُشر الوثائق إلى أي إجراء تأديبي أو تحقيق كامل في حوالي 9 من كل 10 حالات، بل ولم تتضمن أي مراجعة أخرى أو توصيات أو دروساً مستفادة إلا في رُبع هذه الحالات. حتى تصميم نماذج التقارير يجعل تحليل الأسباب مهمة صعبة؛ فلم تكن تحتوي على مساحات مخصصة لذكر العوامل التي أدت لحدوث الخطأ. وهناك عدد قليل من الأماكن المخصصة لذكر الأسباب المباشرة أو الدروس المستفادة، لكنها خلت من المعلومات أو حُجب محتواها. كانت الوثائق غالباً غير مكتملة، أو بلا مرفقات، أو أُدرج جزء منها فقط في قواعد البيانات المشتركة.

وفي كثير من الحالات، كُلّفت الوحدة التي نفذت الغارة بالتحقيق فيها؛ وعادةً يتضمن التقييم أقل القليل من المعلومات. على سبيل المثال، رفضت إحدى وحدات العمليات الخاصة ادعاءً بمقتل تسعة مدنيين في غارة في ديسمبر عام 2016 بالقرب من مدينة الرقة، لسبب أوردته في فقرة واحدة هو أنها راجعت غاراتها في تلك المنطقة ولم تجد دليلاً على احتمال سقوط ضحايا مدنيين. لم يتطرق التقرير إلى أي معلومات أو تفاصيل من فيديو المراقبة.

وجدت ”نيويورك تايمز“ أن الحالات التي تتضمن حذف المعلومات وحجبها وغياب الوثائق ترتبط غالباً بوحدة العمليات الخاصة ”تالون أنفيل“ التي نفذت الغارة الجوية التي كُشف عنها مؤخراً والتي تسببت في مقتل عشرات المدنيين في سوريا عام 2019.

من بين 1311 تقييماً للبنتاغون، زار المحققون مكان الغارة في واقعة واحدة فقط، وتحدثوا مع شهود العيان أو الناجين في واقعتين.

قال المتحدث العسكري النقيب اوربان إنه قد يتعذر على المحققين زيارة مواقع الانفجار والتحدث مع ”الأشخاص في الميدان“ في منطقة معادية.

عوضاً عن ذلك، يكون الفيديو المسجّل عقب الغارة هو الدليل القاطع الذي يُنظر فيه. لكن كما كان الفيديو ضعيف الجودة وقصيرة المدة سبباً في الإخفاقات القاتلة مراراً وتكراراً، كان سبباً كذلك في تقويض الجهود المبذولة لمراجعة هذه الإخفاقات.

كانت مدة الفيديو تقتصر عادةً على بضع ثوانٍ أو دقائق، وفي كثير من الحالات كان الفيديو أقصر بكثير من أن يُظهِر رجال الإنقاذ وهم يخرجون بالناجين من المباني التي لحق بها الدمار. (فعادةً ينتظر رجال الإنقاذ بعض الوقت قبل الاقتراب من منطقة قُصفت للتو، خشية أن يحسبهم منفّذو الغارة أعداءً ويضربوا المكان مرة أخرى، وهو ما يُعرف في الجيش باسم ”الضربة المزدوجة“). وفي كثير من الأحيان، يتسبب الدخان الناتج عن الانفجار في حجب الرؤية.

قال محلّل مسؤول عن التقاط صور الغارات – قرر عدم الكشف عن هويته بسبب التزامه باتفاقية عدم الإفصاح – في مقابلة إن الضباط الأعلى رتبة عادةً ”يطلبون من المصورين البحث في مكان آخر“ لأنهم ”يكونون على علمٍ أنهم أصابوا هدفاً بطريق الخطأ“.

وفي بعض الأحيان لا يكون هناك فيديو من الأساس للمراجعة، وهو ما يُتخذ ذريعةً لرفض الادعاء. ويحدث ذلك نتيجة ”خلل في المعدات“ إما لأنه لا توجد طائرة ”رصدت أو سجلت الغارة“، أو لأن الوحدة لم تعثر على الفيديو، أو لم تحتفظ به كما ينبغي.

وفي عدد من الحالات، رُفضت ادعاءات وجيهة لأن تفاصيل الادعاء لم تتطابق تماماً مع الصور.

على سبيل المثال، عندما أبلغت مجموعة Airwars – وهي المصدر الرئيسي للادعاءات المحالة إلى الجيش حول سقوط الضحايا المدنيين – عن غارة في شرق الموصل في أبريل 2015 تسببت في مقتل العشرات من رجال الإنقاذ المدنيين، رُفض الادعاء بسبب ”التضارب في روايات شهود العيان“. ورغم أن أحد الشهود أدلى بشهادة دقيقة حين قال إن ثلاث قذائف ضربت محطة كهرباء فرعية، فقد قال أيضاً إن القذيفة الثالثة سقطت بعد ربع ساعة من القذيفة الثانية وإنها لم تنفجر؛ وهو ما وصفته الوثيقة بأنه ”غير متسق“ مع صور الجيش وتقرير الغارة. (اعتُبر هذا الادعاء ذو مصداقية في وقت لاحق بعد أن زارت ”نيويورك تايمز“ موقع الغارة وأبلغت الجيش بأن ما لا يقل عن 18 مدنياً قد قُتلوا وأكثر من 10 مدنيين أصيبوا جراء تلك الغارة.)

وحتى في الحالات التي اعتُبرت ذات مصداقية، كانت حصيلة الضحايا المعترف بها من الجيش أقل من الحصيلة الفعلية، لأن الضحايا الذين لم ترهم كاميرات المراقبة الجوية قبل الغارة لن يظهروا في الصور بعد الغارة. وخيرُ مثال على ذلك ما حدث في الغارة التي تسببت في مقتل خمسة أشخاص وإصابة أربعة من المدنيين في شهر رمضان عام 2016 بالقرب من جامعة الموصل. صرّح الجيش بإصابة مدنيين اثنين كانا قد ظهرا في الفيديو المسجّل قبل الغارة.

عندما يتلقى الجيش ادعاءً عن سقوط ضحايا مدنيين، فإنه يراجع قائمة مرجعية ليقرر إذا كانت الواقعة تستحق مزيداً من التحقيق. لم تصل معظم هذه الادعاءات قط إلى نقطة مراجعة الفيديو. فرُبع الوقائع التي اعتُبرت بلا مصداقية أُغلقت بسرعة لأنها تفتقر إلى المعلومات أو التفاصيل الكافية، مثل وجود موقع محدد أو إطار زمني مدته 48 ساعة. ورُفض أكثر من نصف الادعاءات، بعضها بطريق الخطأ، لأن الجيش لم يجد توثيقاً لغارات في النطاق الجغرافي المحدد في الادعاء – أو لأنه وجد حالات تطابق محتملة كثيرة جداً ومعلومات تفصيلية قليلة جداً.

توجد تلك المعلومات عادةً في السجلات الرسمية التي تحتفظ بها السلطات المسؤولة عن تنفيذ الغارات، لكن صحيفة ”نيويورك تايمز“ وجدت حالات عديدة تكون فيها السجلات غير مكتملة أو غير دقيقة. وكما يتضح من الوثائق، كانت قوات التحالف غالباً على علم بأن سجلاتها منقوصة.

أُغلقت القضايا في كثير من الأحيان لأن الجيش رأى أنها تفتقر للمعلومات التي تحدد المنطقة المقصودة. وفي بعض الحالات كان هذا الاستنتاج نابعاً من عدم فهم الثقافة والعادات المحلية.

ففي شهر يناير عام 2017، وبسبب عدم كفاية المعلومات، أغلق أحد المسؤولين قضية بعد تداول أخبار على مواقع التواصل الاجتماعي حول مقتل مدنيين في غارة على مأتم في حي الشفاء غرب الموصل. بحث المسؤول في السجلات عن غارات نُفذت في أقرب مقبرة لذلك الحي لكنه لم يجد شيئاً.

الحقيقة أنها هذه الغارة، كما ظهر في مقطع فيديو صادم انتشر مع الأنباء الأولى حولها، لم تُنفذ في مقبرة؛ حيث تُظهر الصورة المصغرة للفيديو مدخل أحد المنازل. فمآتم المسلمين نادراً ما تقام في المقابر، علاوةً على أنهم يدفنون موتاهم بسرعة، ووقتها كان قد مرّ على وفاة العقيد عزيز أحمد عزيز السنجري الذي أقيم له هذا المأتم أربعة أيام.

تجمّع عدد كبير من عائلة السنجري في بيت الأسرة للعزاء. كان يوماً مشمساً بعد الظهيرة، فجلس بعض أفراد العائلة خارج المنزل. سمعوا أزيز طائرة مسيّرة تحوم فوقهم، لكنهم لم يشعروا بالقلق لأنه كان أمراً شائعاً. وبعد دقائق، سقطت القذيفة وقتلت 11 شخصاً حسبما كشفت ”نيويورك تايمز“.

قال النقيب اوربان: ”في بعض الحالات، لا يتطابق تقييمنا لعدد الضحايا من المدنيين مع تقييم المجموعات الخارجية، ونقرّ أن هذه الأرقام قد تتغير بمرور الوقت أيضاً“.

وأضاف: ”نحن نبذل قصارى جهدنا، في حدود الظروف المتاحة، لنفهم تماماً تبعات عملياتنا والضرر الذي يلحق بالأبرياء. وعدم وصولنا أحياناً لنفس النتيجة التي تصل إليها المجموعات الخارجية لا ينتقص من إخلاصنا في السعي لتصحيح الوضع“.

رصدت العديد من دراسات البنتاغون قصوراً في المساءلة في بعض الحالات. ففي شهر أبريل عام 2018، كشف تقييم أجرته هيئة الأركان المشتركة للقتلى المدنيين جراء الغارات الجوية في الشرق الأوسط وأفريقيا عن أن ”الملاحظات التي تُعطى للمرؤوسين حول سبب و/أو الدروس المستفادة من حادث أوقع إصابات بين المدنيين تكون غير متسقة“. كما تحدث التقرير الأخير للمفتش العام للبنتاغون عن وجود ”تقصير“.

لكن هذه التقارير لا تتحدث عن كيفية تكرار الأخطاء في الغارات الجوية.

قال السيد لويس، المؤلف المشارك الذي استُبعدت جهوده لتحليل التقييمات من دراسة هيئة الأركان، إن التقرير اعتمد في الأساس على مقابلات مع المسؤولين عن التقييم. رصد المسؤولون أنماطاً محددة – خاصةً وقوع الضحايا بسبب الانفجارات الثانوية ودخول منطقة الهدف بعد إطلاق السلاح، لكن أقل القليل من الأسباب المنهجية وراء النسبة الأكبر من القتلى المدنيين.

سألت ”نيويورك تايمز“ السيد لويس لماذا يضع الجيش إجراءات معقدة كهذه لتفادي الخسائر بين المدنيين، ويقيّم تلك الخسائر، لكنه لا يعطي أولوية لتوثيق أو دراسة الأسباب والدروس المستفادة. وبحسب قوله، فإن هذه المنظومة لا تضفي شرعيةً على أفعال الجيش فحسب، بل تجعل الولايات المتحدة تتباهى بإجراءات تعتبرها نموذجاً عالمياً للمساءلة.

قال المسؤول الأمريكي رفيع المستوى السابق في الحملة ضد داعش إن الإجراءات تخدم غرضاً إضافياً – هو توفير ”غطاء نفسي“ للمشاركين في هذه العمليات. ”لقد نفذّنا الإجراءات. فعلنا ما ينبغي فعله. لكن أحياناً تحدث الأخطاء“.

ذكر أيضاً أنه بدأ رحلة علاج نفسي بعد عودته من مهمته متألماً مما رأى. أشار إلى مدينة الرقّة، التي أصبحت مقبرة بفعل الغارات الجوية بقيادة الولايات المتحدة، وشبهها بأنقاض مدينة حلب التي قصفها الروس دون مراعاة لاعتبارات الجيش الأمريكي المعقدة حول مبدأ التناسب – أو تقديرات الخسائر الجانبية، أو قوائم الأماكن الممنوع قصفها، أو قواعد الاشتباك.

قال: ”في نهاية المطاف، توقفتُ عن وصفها بأنها حملة القصف الأكثر دقة في تاريخ الحروب. ما الفائدة؟ ليس مهمَّا إن كانت هذه هي حملة القصف الأكثر دقة وحالُ المدينة هكذا“.

كان جميع الفتيان والرجال في منطقة باندي تيمور يعرفون أنه يتحتّم عليهم الفرار عندما يرون سيارات تويوتا هايلكس.

أطلق الناس عليها اسم سيارات ”ويجوس“. كانت تقودها قوات أفغانية شبه عسكرية في ليالي اكتمال القمر عند مفترق الطرق أمام مدينة ”لشكر كاه“، يشقون طريقهم وسط بلدة بارانغ ويتفرقون عند الحدّ الفاصل بين ولايتي قندهار وهلمند ومنه إلى أماكن أخرى في منطقة باندي تيمور حيث يلقون القبض على أي شخص، مسناً كان أم شاباً، يظهر في طريقهم حسبما ذكر أحد السكان واسمه مطيع الله.

Leave a Reply